بيت جبرين

انت القرية قائمة على أرض مستوية في السفوح الغربية لجبال الخليل، إلى الجنوب من واد يحمل اسمها: وادي بيت جبرين. وقد سهّل وجود الوادي إنشاء الطرق، ووضع القرية على تقاطع طرق تؤدي إلى الخليل والقدس والرملة والفالوجة (قضاء غزة). وربما كان اسم القرية آرامي الأصل، ومعناه ((بيت الجبّار)). وفي رواية الفولوكلور المحلي أن القرية كان يسكنها الكنعانيون الذين اعتُبروا جنساً من العمالقة. كانت بيت جبرين بلدة عريقة في القدم، وكان اليهود يطلقون عليها اسم بيت غُفرين. وكان المؤرخ يوسيفوس (Josephus) أول من ذكر بيت جبرين في المصادر اللاتينية، فسماها بيتوغبرا (Betogabra)، وعدّها من القرى الواقعة في قلب بلاد أدوم. في سنة 200م، منح الإمبراطور سبتيميوس سفيروس (Septimius Severus) القرية صفة مستعمرة رومانية، وأطلق عليها اسم إليوثيروبوليس (Eleutheropolis)، وضم إليها رقعة من الأرض كانت من أكبر ما مُنح لقرية في فلسطين في ذلك الزمن. في القرن الرابع للميلاد، أصبحت بيت جبرين مركز أسقفية. وقد فتحها المسلمون في أواخر خلافة أبو بكر الصديق (توفي سنة 634م). وكان فيها ضريح تميم أبو رقية، الصحابي الجليل. وذكر الرحالة المسلم، المقدسي (توفي سنة 990 تقريباً)، أن بيت جبرين كانت في سنة 985م مركزاً تجارياً للقرى والبلدات المحيطة بها، مع أنها كانت في دور الإنحطاط يومها. وبعد ذلك غزاها الصليبيون، الذين ظنوها خطأً بئر السبع في أول الأمر، ثم دعوها لاحقاً بِثْ غِبْلين (Beth Giblin) وبنوا فيها قلعة (سنة 1137). واعتبر ياقوت الحموي، الذي كتب أوائل القرن الثالث عشر، أن بيت جبرين واحدة من أهم البلدات الفلسطينية، وذكر أن فيها قلعة صليبية هدمها صلاح الدين الأيوبي. وقد احتل السلطان المملوكي الظاهر بيبرس (1233-1277) بيت جبرين، منهياً بذلك السيطرة الصليبية على القرية.
ازدهرت بيت جبرين أيام المماليك، وكانت في نهاية القرن الثالث عشر إحدى محطات البريد بين غزة والكرك (من مدن جنوب الأردن اليوم). وبنى متصوّف مسلم، يدعى محمد ابن نبهان الجبريني، زاوية في القرية وتوفي هناك سنة 1343. في وقت لاحق، حُصِّنت بيت جبرين: مرة أيام العثمانيين في سنة 1551، ومرة أُخرى على يد البريطانيين زمن الانتداب. في سنة 1596، كانت بيت جبرين قرية في ناحية غزة (لواء غزة)، وعدد سكانها 275 نسمة، يؤدون الضرائب على عدد من الغلال كالقمح والشعير والسمسم، بالإضافة إلى عناصر أُخرى من الإنتاج كالماعز وخلايا النحل. وذكر الرحالة الصوفي الشامي، مصطفى البكري الصديقي، أنه تجوّل في المنطقة في أواسط القرن الثامن عشر، وأمضى ليلة ممتعة في بيت جبرين.
في نهاية القرن التاسع عشر، كانت بيت جبرين قرية كبيرة مبنية بالحجارة والطين، وقائمة في موقع حصين على منحدر أحد الأودية. وكانت بساتين الزيتون تمتد عبر الوادي إلى الشمال. وكانت القرية، التي قُدر عدد سكانها في ذلك الوقت بـ 900-1000 نسمة في سنة 1912، وأنها كانت تحتل ثلث الموقع القديم.
في أثناء الانتداب، كانت بيت جبرين مركزاً تجارياً ومرفق خدمات لقرى المنطقة. وكان سكانها كلهم من المسلمين، وفيها مدرستان وعيادة طبية وموقف للباصات ومركز للشرطة وكان يقام فيها كل ثلاثاء سوق أسبوعية تجذب الزبائن من القرى المحيطة. وكان سكان بيت جبرين يزرعون الحبوب والفاكهة. أمّا شجر الزيتون، فكان يُغرس في منطقة كثيرة التلال تحيط بالقرية. وكانت الزراعة بعلية في معظمها. في 1944/1945، كان ما مجموعه 30613 دونماً مخصصاً للحبوب، و2477 دونماً مروياً أو مستخدَماً للبساتين. وقد كشف علماء الآثار، الذين يعملون في موقع بيت جبرين، عن أرضيتين من الفسيفساء لكنيستين يعود تاريخهما إلى القرنين الرابع للميلاد والسادس للميلاد، هذا بالإضافة إلى كهوف كانت آهلة من قبل، ومدافن، وأبراج حمام.

إحتلال القرية وتطهيرها عرقيا 

عندما دخلت القوات المصرية فلسطين، في المراحل الأولى من الحرب، أُعطيت الكتيبة الأولى في الجيش المصري الأوامر لكي تتخذ مواقع لها في بيت جبرين (الواقعة على خطوط الجبهة الفاصلة بين القوات الإسرائيلية والقوات المصرية) في النصف الثاني من أيار/مايو 1948. وورد في صحيفة ((نيويورك تايمز))، في أوائل أيار/مايو، أن آلافاً من سكان يافا نزحوا إلى منطقة الخليل، و((سكن كثيرون منهم الكهوف التاريخية لبيت جبرين، شمالي غربي الخليل)).
وتشير المصادر الإسرائيلية إلى أن احتلال بيت جبرين تم في الطور الأخير من عملية يوآف. وعلى الرغم من أن عملية يوآف جرت، بصورة رئيسية، في المنطقة الساحلية الجنوبية (حيث نجحت القوات الإسرائيلية أخيراً في احتلال المجدل وإسدود)، فإنها اشتملت أيضاً على هجوم شنّه لواء غفعاتي في منطقة تلال الخليل. علاوة على ذلك، جرى التنسيق بين عملية يوآف وعملية ههار، بعد 18 تشرين الأول/أكتوبر، وكان الهجوم في الجزء الجنوبي من ممر القدس. وكانت العمليتان بقيادة يغال آلون، ((الذي لم يترك وراءه في حملاته السابقة أية مجموعة مدنية عربية))، بحسب ما ذكر المؤرخ الإسرائيلي بِني موريس.
أُوكل إلى لواء غفعاتي، خلال عملية يوآف، مهمة التقدم شمالاً وشرقاً صوب الخليل، بينما كانت قوات إسرائيلية أُخرى تندفع في اتجاه الجنوب الشرقي نحو غزة والنقب. ويذكر موريس أن بيت جبرين قُصفت بعنف في بداية عملية يوآف، في 15-16 تشرين الأول/أكتوبر، أن ((بيت جبرين أُضيفت إلى الأهداف المألوفة للقوة الجوية الإسرائيلية، أول مرة الليلة الماضية [18 تشرين الأول/أكتروبر]، وأنها قصفت مرة أخرى في الأيام القليلة اللاحقة. وقد أدت هذه الهجمات، بالإضافة إلى غارة ليلية تمهيدية، إلى ما يسميه بِني موريس ((الفرار ذعراً)) من القرية.
ونشرت صحيفة ((نيويورك تايمز)) تعليقات لناطق عسكري إسرائيلي على أهداف العملية، إجمالاً، قال فيها أنه لم يكن في نية الجيش الإسرائيلي أن يستولي على معاقل الجيش المصري في المنطقة، لكن ((في أثناء تنفيذ عمليات قطع الطرق ضعفت قوة بعض المواقع [المصرية]، بحيث بدا من البديهي الاستيلاء عليها)).
اُحتل بعض القرى، مثل دير الدبّان (نحو 6 كلم إلى الشمال) في أثناء الاندفاع صوب الشمال في 23-24 تشرين الأول/أكتوبر 1948. ويشير موريس إلى هجوم أولي على بيت جبرين ليل 24 تشرين الأول/أكتوبر 1948، لكنه يذكر أن احتلالها لم يتم إلاّ في 27 من الشهر نفسه. أمّا ((تاريخ الهاغاناه)) فيؤرخ الهجوم الأولي في 26 تشرين الأول/أكتوبر، ويؤكد أن القرية احتُلت في اليوم التالي.
عندما تم احتلال بيت جبرين نهائياً، اعتبر الإسرائيليون أن السيطرة عليها تشكل تقدماً عسكرياً مهماً على الجبهة الجنوبية. كما أن باحتلالها أحكم تطويق ((جيب الفالوجة)).
بعد أن اكتمل معظم عملية يوآف، تابع بعض الوحدات الإسرائيلية التقدم نحو الشرق في منطقة الخليل. وفي 30 تشرين الأول/أكتوبر، أفاد مراسل صحيفة ((نيويورك تايمز)) أن ((الدوريات الإسرائيلية وجدت عدة قرى في النقب الشمالي، بين بيت جبرين والخليل، خالية فاحتلتها)). وي قضاء غزة، نهبت وحدات إسرائيلية مدينة المجدل وبعض القرى التابعة لها، في 4-5 تشرين الثاني/نوفمبر 1948؛ وهذا الهجوم الأخير سبقته غارات جوية على امتداد المنطقة الساحلية الجنوبية.
والظاهر أن القرية لم تدمِّر إبان احتلالها، أو أنها على الأقل- لم تدمر فور احتلالها. ويذكر بِني موريس حالة بيت جبرين، من خلال وصفة موقف رئيس الحكومة الإسرائيلية، دافيد بن غوريون، من تدمير القرى، فيقول: ((يبدو بن غوريون في يومياته، أحياناً، أنه يحاول متعمداً تضليل مؤرخي المستقبل. فمن ذلك أنه، في 27 تشرين الأول/ أكتوبر… وجد الوقت كي يدون فيه ما يلي: “دخل جيشنا هذه الليلة بيت جبرين… يغال ألون [قائد الجبهة الجنوبية] طلب الإذن في نسف بعض المنازل، فأجبت بالرفض”.

القرية اليوم

كل ما بقي منها مسجد، ومقام مجهول الاسم، وبضعة منازل. المسجد بناء حجري مسطّح السقف، له نوافذ عالية مقوّسة من جميع جهاته، وله أبواب مقوّسة الأعلى أيضاً، وله في الجهة الخلفية رواق واسع القنطرة تعلوه قبة. والمسجد محاط بالنباتات البرية. أمّا المنازل الباقية فبعضها يقيم فيه اليهود، وبعضها الآخر مهجور. وقد حُوّل أحدها- وهو بناء حجري مؤلف من طبقتين، وله باب مستطيل ونوافذ- إلى مطعم إسرائيلي مسمى باسم عربي هو ((البستان)). وتنتصب منازل إسرائيلية مسبقة الصنع قرب المقام المهجور. وبات موقع القرية مغطى بالأعشاب الطويلة والشجيرات ونبات الصبّار وأشجار الكينا، في حين أصبحت المنطقة الغنية بالآثار موقعاً يجتذب السياح.

المغتصبات الصهيونية على اراضي القرية

في سنة 1949، أُنشئت مستعمرة بيت غُفرين على أراضي القرية، إلى الشمال من موقعها.

المصدر:
كتاب كي لا ننسى، وليد الخالدي
www.palestineremembered.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *